السبت، 3 أبريل 2010

ما بعد الحوار مع القاعدة

أحمد ولد اسلم / مدونة كلمات متناثرة : هدأت الزوبعة الاعلامية المثارة حول الحوار الذي نظمه جمع من العلماء الموريتانيين مع المعتقلين في السجن المدني بنواكشوط، وأميط اللثام عن توبة أو تحييد بعضهم، وإصرار ما قيل إنها ثلة قليلة على مواقفها، حالت دون مشاركتها في الحوار موانع صحية أو فكرية.
وبعيدا عن تثمين الخطوة أو تبخيسها، يحق للمتابع طرح جملة أسئلة عن جدية الحوار وتوقيته وما سيكون بعده، مع الإقرار بصعوبة الوصول إلى أجوبة قطعية في ملف يمتزج فيه السياسي بالأمني بالديني.

النشأة الأولى:
لا يعرف على وجه الدقة تاريخ تسرب ما يسمى ‘الفكر الجهادي’ إلى الساحة الموريتانية المفتوحة سوقها أمام كل البضائع الفكرية منذ نشوء الدولة الوطنية، ولكن المؤكد أن أوابده بدأت تظهر مطلع تسعينيات القرن الماضي، تزامنا مع وصول وسائل الإعلام الحديثة وما تنقل عن أحوال المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها من أفغانستان إلى بورما والفليبين ودول البلقان، وإن ظل هذا الفكر متسترا أو مشتتا في أذهان قلة ممن شاركوا أو نووا المشاركة في سوح كانت تعتبر حينها ‘جهادية’.
ويرجح أن فكرة تأسيس تنظيم ‘للسلفية الجهادية’ لم تتبلور لدى قادته قبل مطلع القرن الجاري، مع تباين ملحوظ في الأفكار والاستراتيجات ووسائل العمل صاحب تلك النشأة.
وقد ساهمت الحملة الأمنية لنظام الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد الطايع عام 2003 في بعثرة أوراق الحركة التي تخلى عنها عدد من قادتها الفكريين، ليجد من كانوا يعتبرون أعضاء في خلايا متفرقة أنفسهم فجأة حلقة في فلاة الساحة الإسلامية المنشغل كل من فيها بترتيب بيته من الداخل، فكان خيار ‘الهجرة’ إلى ميادين التدريب في شمال مالي وجنوب الجزائر أضمن عاقبة، وإن بقي أفراد قلائل تتقاذفهم منابر المساجد ومخافر الشرطة، يتساقطون على طريق لم تتضح لأغلبهم معالمها بعد، حتى جاءت تجربة حامية ‘لمغيطي’ العسكرية في تموز(يوليو) 2005، لتكشف لمن اختار ‘الهجرة’ هشاشة البنية العسكرية والأمنية للدولة الموريتانية، وتعيد إلى من بقوا على الأرض الثقة في منهج كادوا يجزمون بخطئه.
وهي ثقة تنامت بفعل النجاحات المتوالية في اختراق حصون الأمن الموريتاني سواء في قلب العاصمة كعملية الميناء (تشرين الثاني /أكتوبر 2007)، والهجوم على مبنى السفارة الاسرائيلية (شباط /فبراير 2008)، و الاشتباك في حي تفرغ زينة الراقي (نيسان /ابريل 2008)، أو في داخل البلاد كمقتل السياح الفرنسيين والهجوم على الجيش في منطقة الغلاوية (كانون الاول /ديسمبر 2007)، ثم الهجوم على كتيبة تورين (ايلول /سبتمبر 2009)، وما سبق ذلك من فرار بعض السجناء الموصوفين بقادة تنظيم القاعدة في موريتانيا من السجن المدني بنواكشوط، ومن قصر العدالة في وضح النهار.
الحاجة إلى القاعدة:
أظهرت الحملات الأمنية الأولى للنظام الموريتاني (منتصف 2003 وحتى منتصف 2005) سياسة ركز واضعوها على ضرورة إيجاد قواعد لتنظيم القاعدة في موريتانيا- حتى وإن لم تكن موجودة -، وذلك للاستفادة مما يطلق عليه ‘الحرب الدولية على الإرهاب’ وكذلك لشغل المواطن عن المطالبة بالتغيير التي بلغت أوجها نهاية عهد ولد الطايع، وهو ما يوفر تهمة جاهزة التكييف للزج بالمعارضين السياسيين في السجن، وإظهارهم للغرب أعداء للديمقراطية ولمصالحه التي يتكفل النظام برعايتها.
وهذا ما يفسر تعميم صفة ‘الإرهابي’ في وسائل الإعلام الرسمية على أغلب المعارضين وخاصة من الإسلاميين حتى من أولئك الذين لا شأن لهم بالفعل السياسي.
وإن كان المنظرون ‘للمؤامرة’ يرون أن تلك الحملات الأمنية لم تكن سوى الجزء من مخطط ‘الانقلاب من الداخل’ الذي نفذه الجيش على رأس النظام مطلع آب /أغسطس 2005، بحجة أن أهم ركائز الدعاية للحكم الجديد كانت إفراجه عن العلماء والسجناء الإسلاميين، مع أن ذلك الإفراج استثنى آنذاك مجموعة قليلة استبقيت لتسويق الإفراج عنها لاحقا.
وقد شهد عهد الجيش (2005-2007) هدنة غير معلنة بين من يقال إنهم أعضاء تنظيم القاعدة والأمن الموريتاني، استغلتها القاعدة في تنظيم صفوفها وتأطير العناصر الجديدة، وفق ما سرب من محاضر التحقيق مع بعض من اعتقلوا لاحقا إثر العمليات الدامية التي وظفت أيضا للإجهاز على النظام الديمقراطي الوليد، فكانت أهم مبررات الإطاحة به بعد خمسة عشر شهرا فقط.
ولم يقتصر ‘إيجاد تنظيم القاعدة’ في موريتانيا على التوظيف السياسي للإطاحة بنظام أو لكسب رأي عام وطني في تأييد التغيير غير السلمي، ولا على تسويق صورة حامي الحدود الغربية من الإرهاب لما كشفت عنه تلك العمليات من عدم جدارة قوى الأمن وعجز البنى التحتية للقوات العسكرية في البلاد عن حمل هذه الصفة. بل كانت الصناديق السوداء المخصصة للعمليات الأمنية ولتمويل الحرب المفتوحة على ‘الإرهاب’ أحد أهم مسوغات الإبقاء على هذه الحرب خلال السنوات العشر الماضية تقريبا.
ذلك أن ما يوفره إطلاق يد القادة الأمنيين في التصرف بتلك الأموال غير الخاضعة لمساءلة البرلمانيين على قلة تلك المساءلات الجادة في الميادين الأخرى- وخاصية السرية المطلقة التي تتمتع بها، ومحدودية القادرين على صرفها تجعل الممسكين بالملف الأمني يحرصون دائما على الاحتفاظ بجذوة خافتة يمكن إشعالها في أي لحظة وترويجها -عند الضرورة- على أنها عمل ‘إرهابي’ يستهدف أمن المواطن ومصالح الدولة.
ما يعني أن وجود القاعدة أو إيجادها -على الأصح- مرتبط برغبة قادة الأمن في استحداث بنود جديدة للصرف تكون بعيدة عن عين الرقيب.
ولعل هذا ما قصده الرئيس الموريتاني الحالي حين أشار في خضم الحملة الانتخابية الماضية التي خاضها معه أحد سدنة جهاز الأمن إلى أن الجيش والشرطة أقعدهما الفساد الذي ينخر هياكلهما عن القيام بالمهمات المنوطة بهما.
ومما يبرر هذا الطرح تأكيد العلامة محمد الحسن ولد الدوو الذي قاد الحوار مع المعتقلين أنه طالب منذ إطلاق سراحه 2005 بهذا الحوار، وناقشه مع مختلف الأنظمة المتعاقبة، وكانت الاستجابة لدعواته تترواح بين إطلاق سراح مجموعة، وتعجيل محاكمة أخرى، قبل أن تخلص تحت إلحاحه إلى الدخول في الحوار المباشر.

ما بعد الحوار:
جلسات الحوار مع المعتقلين بدعوى الانتماء لتنظيم القاعدة، والتي بثتها وسائل الإعلام، والبيانات والرسائل التي تبادلها المعتقلون في الصحف المحلية أثبتت أن أغلب من شاركوا في الحوار لم تكن لديهم أصلا رؤية مختلفة عما جاءهم به العلماء، وكانت غالبيتهم على استعداد لتوقيع التزام بنبذ العنف والعودة إلى أحضان المجتمع حتى قبل بدء الحوار.
فيما بينت تلك الجلسات أن ثلة ممن يعتقد أنهم على صلة بتنظيم القاعدة كانوا أكثر تشبثا بنظرتهم إلى الحياة السياسية وما يدور فيها، وإن أبدى بعضهم استجابة وتراجعا عن رأيه بعد جدل لم يدم طويلا، ولم تبق إلا قلة اكتفت بتبادل الشتائم والتنابز بتهم العمالة والانبطاح وكل مصطلحات ذلك القاموس السهل استعماله حين تنعدم الرؤية أو الحجة.
وهو ما كشف أيد أمنية بينة التدخل، سواء في تسريب الرسائل أو تشجيع الرد عليها من وراء القضبان، لتخلق تلك الردود والردود المضادة متاهة يحار فيها المتابع إن كان المعلنون توبتهم نصوحا هم من كتبوها، أو استكتبوها لإضفاء تلك الضبابية على المشهد الأخير من الحلقة.
ومرة أخرى يتمكن النظام من توظيف ملف القاعدة لصالحه محليا بالدرجة الأولى، من خلال الترويج لنهج الحوار أسلوبا في معالجة مختلف الملفات التي تعتبر شائكة، لينتزع من أيدي أحزاب وقوى المعارضة ورقة ظلت تلوح بها في وجهه منذ توليه مقاليد الحكم، حتى ولو كانت أولويات المعارضة في الحوار لا تتقاطع مع ما انتهجه.
ثم لينهي الحوار من دون أن يلزم نفسه بشيء أمام الرأي العام الوطني أكثر من الحوار في حد ذاته، ويترك الملف كما كان بين يدي الجهات المعنية بمعالجته، مع إخطار العلماء أنه أخذ علما بما خلصت إليهم جلساتهم مع المعتقلين.
وفي المحصلة تنسحب ظلال من الشك على المستقبل القريب، ويبقى الجميع في ترقب دائم لأن يحمل مسلحون جدد أو تائبون سابقون السلاح ويطلقون النار في أي جهة، مما يبقى كل الاحتمالات قائمة ويسمح للممسكين بالملف الأمني بإيجاد مبرر صرف، تزداد الحاجة إليه مع دخول الأوروبيين الميدان بأموالهم ورجالهم وأعينهم التي ترقب عن كثب كل شيء، على أمل أن يدفع ذلك الدخول الولايات المتحدة الأمريكية قائدة الحرب على ‘الإرهاب’ إلى التدخل -ولو ماديا- للحفاظ على موطئ قدمها في منطقة تتنازعها قوى النفوذ، ولن يعجز الأمن مبرر لذلك متى ما أراد.
بقلم أحمد ولد اسلم .كاتب موريتاني مقيم في موسكو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمطالعة النص الأصلي للمقال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق